نوري باشا السعيد!
بين الموالين والمناوئين والواقع التاريخي
دراسة تاريخية تبحث في سياسة الباشا من منظور وطني
الباحث في التاريخ
محسن جبار العارضي
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الطبعة الاولى بغداد
1435هـ -2014م
تمهيد:
لم
تكن فسحة الحرية التي شعر بها المواطن العراقي بعد انهيار الدكتاتورية في 9\4\2003م ايجابية بكل معنى الكلمة،لانها
فتحت الابواب على مصراعيها امام الذين يتعاطون الكتابة ،لاسيما الذين يبحثون في
التاريخ السياسي للعراق الحديث والشخوص التي اثرت فيه،بشكل او بآخر،بصرف النظر عن
خلفية هذه الشخوص وهل هي وطنية منحازة الى جانب الجماهير الشعبية التي كانت وما
زالت تعاني من التأثيرات السلبية للفقر والجهل والمرض أم كانت مرتبطة
بالاجنبي(المحتل)تأتمر بأوامره وتحرص أشد الحرص على رعاية مصالحه بحجة أنها من
انصار المدرسة الواقعية .
ولكن
الغريب في الامر الموقف المعلن لانصار المدرسة الواقعية ،فهؤلاء المدافعين عن
الواقعية السياسة، وعند احتدام الصراع بين المصالح الوطنية من جهة والمصالح
الاجنبية من جهة اخرى ،وايهما تتقدم على الاخرى في مثل تلك الحالات ،يتباروْن في
الدفاع عن مصالح الاجنبي بحجة عدم قدرة العراق على مسك زمام الامور ... لابل عدم
قدرته على تحمل مسؤوليته كدولة مستقلة.
وهذا
يعني فيما يعنيه ،انه بحاجة الى خدمات تلك الدولة القوية ،الامر الذي يفرض عليه
رعاية مصالحها والدفاع عنها وكأنها مصلحة وطنية صرفة.
الى
هنا،نكتفي بما ذكرنا،ولكننا نقولها وبمرارة ،
ياليت الامر توقف عند هذا الحد . فدعاة المدرسة الواقعية في السياسة يذهبون
ابعد من ذلك،عندما يتحدثون عن وجوب تحالف العراق مع هذه الدولة القوية او تلك ،لا
لشيء،الا لكون العراق من وجهة نظرهم بحاجة الى مثل هذا التحالف الذي من شأنه توفير
الحماية للبلاد من اي عدوان خارجي .
وحتى
نكون اكثر دقـــــة في ما نذهب اليه ، نقول : ان المقصود بهذه الدولة او تلك ،هي
بريطانيا بعد (الاحتلال البريطاني للعراق في 11\3\1917،وامريكا بعد الاحتلال
الامريكي للعراق في 9\4\2003م) ولكن اللافـــــت للانتباه من جهة ،والمثير
للتساؤول من جهة اخرى ،ان يتحرك بعض الكتّاب العراقيون (وفي مثل ظروف العراق الذي
لايزال يعاني من تداعيات الاحتلال الامريكي في 9\4\2003م)ويطلقوا العنان لاقلامهم
للكتابة عن رموز الحكم الأهلي (1921 – 1958)وبعضهم لمّا يزل يعاني من التاثيرات
القومية والطائفية والمذهبية والدينية وحتى المناطقية في بعض الأحايين(«).
الامر
الذي يجعلهم غير منصفين ،لا بل منحازين وبوضوح الى هذا الطرف على حساب الطرف
الاخر.فمــــــرة يطـــــــالبون برد الاعتبار الى رموز الحــــــكم الأهلي (««)، ومرة ثانية يطالبون بمحاكمة
الزعيم عبد الكريم قاسم ،لانه وبحسب رأيهم أطاح بالملكية (النظام الدستوري المستقر)واقام
الجمهورية (التي جلبت الويلات والفوضى والدمار والخراب للعراق)(«) ومرة ثالثة يحاولون اعطاء صورة
البطل المنقذ لنوري السعيد ،بحيث يسهبون في وصف الانجازات التي قدمها والتي يقولون
عنها ،بان العراق لايزال ينتفع من وجودها .ومرة رابعة (وهنا مكمن الخطر) يقولون
بان نزاهة نوري السعيد لا تقل باي حال من الاحوال عن نزاهة عبد الكريم قاسم .لا بل
يذهبون ابعد من ذلك ،عندما يمنحون نوري السعيد لقب الشهيد.
ونحن
نعتقد ان الاصرار على هذا الطرح ، لاسيما منح الباشا لقب الشهيد انما هو طعن في
شرعية ثورة 14\تموز\1958م،التي خطط لها ونفــــــــــذها الزعيم عبد الكريم قاسم
من جهة،وتفريغها من محتواها واظهارها للشعب العراقي، وكأنها مجرد انقلاب عسكري من جهة اخرى.
وجدير
بالذكر في هذا الصدد ، رأي الدكتور عزيز الحاج علي حيدر اغا (سكرتير القيادة
المركزية للحزب الشيوعي العراقي سابقا )الذي ورد في مقال كان قد نشره في ذكرى الثورة عام 2009م ، متضمناً الملاحظات
التالية :
(رغم
مرور عقود خمسة ، فان ثورة 14 تموز العراقية ، وشخصية زعيمها ، لاتزالان موضع
تجاذب في الآراء والاجتهادات ،عراقياً وعربياً بوجه خاص ، وهناك من يذهبون في
الشطط وعدم الموضوعية لحد ان ينسبوا للثورة كل الكوارث والانتهاكات ، ونزعات العنف
التي تفجرت بعد اغتيالها!
وهؤلاء
وآخرون يبالغون في ايجابيات العهد الملكي وكأنه مثالياً.
اجل
، لم يكن العهد الملكي سيئاً في كل فتراته ، فقد شاهدنا محطات مضيئة خلاله ،
كالتعايش الودي داخل المجتمع بين القوميات والطوائف والاديان ، والحرص على المصالح الوطنية (التي
كانت تعد من أولويات الملك فيصل الاول منذ
تسنمه مقاليد الامور في العراق يوم 23/ اب/ 1921م وحتى وفاته في ظروف غامضة في
سويسرا يوم 7/ايلول 1933م ) فضلاً عن توفر الخدمات والامن ، وفترات انفتاح للحريات (ولو بالحد الادنى) لاسيما بعد الحرب
العالمية الثانية (1939م-1945م) والفترة الممتدة من منتصف العام 1954م الى منتصف
العام 1955م.
وكانت
هناك صحافة تنتقد رغم المطاردات القانونية ، والبرلمان ، الذي كانت انتخاباته مزيفة ، كانت ترتفع على منابره أصوات
وطنية جريئة يكون لها صداها بين المواطنين .
كما
كان في البرلمان ممثلون للاقليات المسيحية واليهودية ، من دون أن يثير ذلك أية حساسية في المجتمع. هذا كله صحيح
، ويمكن الاستناد اليه للحكم بأن تلك الاوضاع
كانت أفضل عشرات المرات من الوضع العراقي الحالي ، غيراننا نعرف انه ،
بجانب تلك الايجابيات النسبية ، كانت جماهير الفلاحين تئن تحت نهب وسياط كبار الاقطاعيين وملاكي
الارض ، وكان الفقر ومعاناة العيش منتشريْن، وشركات النفط تنهب دون قيود، والسجون
والمعتقلات تطارد القوى والعناصر الوطنية . وكان ثمة تعذيب للشيوعيين واســـــقاط
للجنسية عن عدد منهم ،وكان التمييز المذهبي واضحاً في التعيين لكبريات المناصب
الامنية والعسكرية ، والقومية الكردية محرومة من حقوق كثيرة وتتعرض للقمع من وقت
لآخر، وتهمة التبعية (أي لايران) كانت تلاحق الفيلية ، وغير ذلك من المثالب التي
لاتعد ولا تحصى.
اليوم
وبعد العقود التي مرت منذ 14 تموز فإن اكثرية الآراء العراقية قد استقرت على ان
الثورة العسكرية كانت محتمة منذ منتصف الخمسينات (المقصود: خمسينات القرن العشرين)
، أي حين فرضت مراسيم استبدادية ، وطوردت الأحزاب والصحف ، واغلقت الجمعيات وجرت
حملة اعتــقالات واسعة للوطنيين من مختلف الانتماءات السياسية والفكرية .
بمعنى
آخر لقد تم غلق أي منفذ جدي للانتقال سلمياً نحو التغيير الثوري ، ولتعديل الاوضاع
جذرياً بخطوات اصلاحية جريئة ومتتابعة، ولو امكن ذلك ، أي تجنب التغيير بالعنف المسلح ، لكانت النتائج افضل
جداً للعراق وشعبه ، ولكن ذلك الخيار لم يكن عملياً مع الاسف ، وقد استقرت الآراء
العراقية ايضاً، ونقصد التقييم الغالب بين القوى الوطنية العراقية ، على ان الزعيم
عبد الكريم قاسم كان اكثرمن حكموا العراق شعبية ووطنية ، وقد زرعت محبته في قلوب العراقيين ، وذلك لان
محبة الشعب ومصلحة الوطن ، كانتا مغروستين في عمق اعماقه ، وتتشربان خلاياه ،
ومسالك دمه ، وعبد الكريم ايضاًعفيف اليد وذا نزاهة مطلقة ، نفتقد اليوم جزءاً
صغيراً منها حيث يسود النهب والفساد!
لقد
عمل قائد الثورة الكثير لصالح الشعب ، وبالاخص للطبقات الفقيرة ، فهوالذي شيد
لسكان الصرائف القادمين من الريف الى مدينة بغداد، مدينة سماها "مدينة
الثورة"
وعبد
الكريم قاسم هو الذي سن قانون الاصلاح
الزراعي "رقم 30 لسنة 1958م" رغم ان تطبيقه كان يتشوه بفعل الدوائر الإدارية
الموروثة ، وهو الذي استرجع من شركات النفط حقوقاً اساسية(«)، ولو لم يتعرض لضغوط ومزايدات اليسار والديمقراطيين ، لاستطاع التوصل مع شركات
النفط لاتفاق تفاهمي افضل يجنب البلاد الاجراءات التعسفية التي اتخذتها شركات
النفط فيما بعد انتقاماً ، والتي اضرت بمواردنا
النفطية والاقتصاد العراقي .
وثورة
14 تموز هي التي شيدت اول جامعة عراقية وعيَّن عبد الكريم قاسم لرئاستها عالماً
قديراً معترفاً به دولياً هو المرحوم عبد الجبار عبد الله، وكان من الاخوة الصابئة
المندائيين، وان تعيينه كان دليلاً على مدى عدم تحيز الزعيم ، مثلما لم يكن متحيزاً
مذهبياً او عرقياً ، وكان هذا التسامح الاصيل في مقدمة مزاياه وخصاله وفضائله.
ان
هذ النظرة العراقية السمحة لكل العراقيين كأبناء وطن واحد ،تجمعهم الخيمة المشتركة
، تبدو لنا اليوم بكل مآثرها حين نقارن
بين ما كان وماهو كائن اليوم ، من اضطهاد للاقليات الدينية ، وغلبة الطائفية
والفئوية ، وتراجع الولاء الوطني لصالح
الولاءات الفرعية.
وعبد
الكريم قاسم وبشهادات الاكثرية، لم يكن
دموياً وان اقام حكماً فردياً ، وكان مجرداً من النزعة الانتقامية ، بحيث عفا عن
المــــــتآمرين على حياته، ومنهم عبد السلام عارف ، وقد كان ميالاً لعدم تنفيذ
احكام الاعدام الاخرى لولا ضغط المحيطين به وتظاهرات الشارع اليساري الهائجة تحت
شعار " اعدم والشعب والجيش معك" فضلاً عن الضغط الذي كانت تمثله اذاعة
صوت العرب في هذا الخصوص.
وعبد الكريم قاسم هو الذي استوزر اول امرأة ولم
يحدث ذلك من قبل على نطاق العالم العربي كله ، وهو الذي اصدر قانونه الجرئ للاحوال
الشخصية رقم 188عام 1959م.
لم
يكن عبد الكريم قاسم زعيماً مثالياً ولا
قائداً معصوماً، فقد اقتــرف اخطاء مهمة ، كإثارة موضوع الكويت في مسايرة لدعوات
الملك غازي وحتى نوري السعيد، ولم يقم بتطهير الجهاز الاداري وانجرَّ وراء تأليه
الجماهير له كزعيم أوحد ، مما زاد من اعتداده بقراراته .
وخلافاً
لادعاءات القوميين عهد ذاك ، فإن الراحل قدم الكثير لنصرة الثورة الجزائرية ، وللشعب الفلسطيني ، وهولم يكن ،كما
ادعوْا ،عدواً للوحدة العربية، وانما كان رجلاً واقعياً ، يرفض الوحدة
الاندماجية التي أرادها الناصريون
والبعثيون ، وهي الدعوة التي فجرت التناحرات
الحزبية الضيقة ، واشعلت صراعات اربكت الثورة وزعزعتها ، وشكلت ضغوطاً هــــائلة
على خطوات عبد الكريم قاسم ، واحبطت قراره بصياغة دستور دائم والانتقال
لعهد ديمقراطي .
ان
تلك الصراعات قد تركت آثارها المؤذية على التطور
العراقي اللاحق . لقد اغتيلت
الثورة بفعل التآمر الناصري -البعثي- النفطي-الغربي- الايراني، وبسبب
الدمار السياسي الذي خلفته الصراعات الحزبية ، ورَفْعِ الاكراد السلاح ضد الحكومة
الوطنية.
ان
عبد الكريم قاسم كان ولايزال ، وبرغم كل شيء ، الاكثر شعبية في تاريخ العراق
الحديث، وفي الظروف العراقية القائــمة اليوم ، والتي لاتبعث على التفاؤل ، يصُحُّ
ان نكرر عالياً : "اين انت ؟ ليتك معنا!" .
نعم
عبدالكريم قاسم لم يكن كاملاً ، وله عيوبه واخطاؤه و تخبط بعض مواقفه، ولكنه ، كان
الزعيم الاكثر شعبية وقرباً من الشعب والانقى اخلاصاً له، وكان مع محمد حديد ،
الاكثر واقعية سياسياً بالنسبة لمجموع القوى السياسية حينئذ، ساعياً للاعتدال
والمرونة جهد الامكان في خضم عواصف الصراعات والمصادمات ونوازع العنف والانتقام.
وقد حاربته قوى خارجية وداخلية ، وانقضّت عليه احزاب كانت "قبلئذ جزء من
الثورة " . زعيم الثورة أراد بناء وطن العدالة والمساواة للجميع ، واستهدف
التحاق العراق بقائمة الدول المتقدمة .وقد سار اشواطاً في الطريق ، ولكن عدم
نضج القوى السياسية الاخرى ، وشراسة الاعداء حالا بينه وبين تحقيق كل ما أراد ، ولم ينل من كل ما فعله لشعبنا غير
عملية اغتيال يندى لها جبين الانسانية "في النص :خسيسة وجبانة" امام
عدسات التلفزيون .
وقد
بخل قاتلوه عليه بقبر يأوي جثمانه الطاهر
، فألقوْا به الى نهر الاحزان والدم.
راح
بعيداً عن شعبه ، وفشلوا في محو اسمه من القلوب او ايجاد ولو قشة واحدة تمكنهم من
اتهامه بسرقة دينار واحد من اموال الشعب أو السطو على قصر كما فعل الآخرون.وقد شاء
التاريخ والحق ان يعود حتى بعض من حاربوه وتآمروا عليه الى انصافه ، وتمجيد خصاله
ومآثره.)
أخيراً،
نقول : لعله من المفيد جداً ان نوضح للقارئ الكريم الاسباب التي دفعتنا للكتابة عن
الباشا، فالرجل كما هو معروف ، ترك بصمات
واضحة على هيكلية الدولة العراقية
الحديثة منذ التأسيس وحتى يوم الرابع عشر من تموز 1958م ، حيث كان يجتهد في
ذلك . فمرة يخطأ ومرة يصيب، فهو بشر وسبحان
من لايخطأ.
ولكننا
نقولها وبصراحة ، اننا ولما وجدنا الكثير من الاصدرات التي تُعنى بتراث الرجل تبالغ في ما تطرح ،توكلنا على الباري جل
في علاه ، وباشرنا بكتابة هذا البحث
المتواضع ،الموسوم (نوري باشا السعيد ... بين الموالين والمناوئين والواقع
التاريخي) وحاولنا من خلال المحاور التي تضمنتها الدراسة ان نشير الى كل امر ذي
صلة بالموضوع مسلطين الاضواء عليه ... ولكن هذه المرة من منظور وطني.
وعود
على بدء ، وحتى لانحيد عن المنهجية
المطلوبة في كتابة البحث التاريخي من جهة ، وحتى تكون عملية توزيع الموضوعات التي
احتوتها الدراسة منسمجة مع الحقبة الزمنية التي امضاها الباشا في العراق ((حاكماً
اوحداً)) وهويــــمارس نشاطاته
السياسية ، من جهة اخرى. أرتأينا ان تكون الموضوعات التي احتوتها الدراسة ،موضوع
البحث ،موزعة على مقدمة وخمسة فصول وخاتمة،وبحسب الترتيب الاتي :
المقدمة
1-الفصل
الاول : ملامح شخصية الباشا.
2-الفصل
الثاني : وجهة نظر الباشا بالاحداث التي عاصرها.
3-الفصل
الثالث : الوزارات العراقية التي ترأسها، والمراسم التي اقرتها ،
والمعاهدات والاحلاف التي وقعت عليها
.
4-الفصل
الرابع :الصراع مع عبد الناصر.
5-الفصل
الخامس : مواقف واحداث .
وتناول بالبحث ثلاثة
موضوعات غاية في الاهمية ، وهي:
-الاول:
قالوا في الباشا .
-الثاني:
ما قاله الــباشا .
-الثالث
:من هنا وهناك.
الخاتمة
26
/رجب/1433هـ
الباحث في التاريخ
17/حزيران/2012م محسن
جبار العارضي